إقرأ ايضاً

الاكثر قراءة
|
|
غداً شاليطٌ جديد ....مها الجيلاني |
| عمان تايمز -
Saturday 29-10-2011 09:18 |
|
غداً شاليطٌ جديد.. ولقد ذكرتك والقضبان تحيطني.. غُلقاً كأصفادٍ تضاف إلى القيدِ..
هو بألف عنترة وهي ولا ليلى مثلها!
كان هو في الأسر وكانت هي في الخارج، هو واحد بألف وألفٌ بواحد، كلما أحاطت به القضبان تذكَّرها فأينع القلب شوقاً، يمتد حبل الإسار بينه وبينها وإذ يرخيه هو تتمسك به هي فتلفّه حول جيدها قلادة وفاء، وترفض أن يكون للدرب رفيقٌ إلّاه، تحتضن ما كان من الأبناء، تنتظر أيام الزيارة إن سُمح لها منذ الفجر إلى منتصف الليل حين تعود وقد يكون الإياب موقعاً بقسوة السجان حين قرّر أن لا لقاء من خلف الأسلاك، وبعد التفتيش المهين والانتظار المضني والطريق الطويل. أو ترسل له الأشواق عبر رسائل تعلم أنّهم سيقرؤونها قبله..قد تصله رسالتي هذه بعد شهرين وقد لا تصله، لن يشمّ عطرها لكنه يشمّ رائحة الشوق وعذابات المعاناة اليومية مخلوطة بعبير الاعتزاز به، هو الرجل الذي يخافون ويغلقون عليه ألف باب، وهي الأمل النابض خارج الأسوار الذي لم يفلحوا بفك شيفرة وفائه للغائب الذي قد لا ترتجى عودته لعاقل!
موقنةٌ هي بربها وبوعده..سيخرج، سيجد يدها الناعمة وقد جفّت وحفرت فيهما الأيام ملامح جهادها الخاص، سيرى الملامح وقد هرمت، لكن الشوق لها سيظل في عنفوان الشباب، ترتدي ثوب الفرحة بخروجه عروساً من جديد.
لن يخرج بمفاوضات الذل، بل بقهرهم وبداوهم بالتي كانت هي الدّاء وسيفرض عليهم شروطه..هو شاليط واحد، ويتحقق الحلم..
كيف تقضي أيامها؟! يقينها بكرم الله بأن يفك أسره بخروجه كيقينها بطلوع شمس الغد وغياب شمس النهار..
كلما أضرب الأسرى عن الطعام أضربت، وكلما سمعت خبراً سيئاً كالعزل الانفرادي انفردت بربها. تعلم هي أنّ الرجال هم الذين تنحني أمام إراداتهم جُدُر القهر ولكنها تفْرَقُ، لا خوفاً عليه فحسب، بل على إخوتها من الرجال حوله، كلّهم باتوا يشكّلون قضيتها، وكلهم هو خلف الزنازين في السجون التي فاقت الثلاثين.
تتدبر معيشتها وتحبس الدمعات، تُشعر الصغار الذين كبروا وهم يرونه صورة وكلمات على ورق بأنها قوية وأنها متماسكة، وهي كذلك لولا بعض لحظات الشوق الإنساني، تمنحهم دفء حضن الأم وتسعى لتعوضهم وجود الرجل الأب، تبثّهم عنه كلمات الاعتزاز، وتحكي لهم قصة الرجل الهمام الذي أرعب العدو وأنزل بفلولهم الموت الزؤام، تصحبهم للاعتصامات والوقفات، تتابع معهم الأخبار كل ليلة، وتنسج كل شتاء دثاراً من شوق يدفئه في السجن البارد..وهكذا كان العهد بينهما وهكذا الطريق التي لا ثالث لنهايتها: إمّا النصر وإمّا الشهادة!
أمّا هو..ففي سجال يوميّ ممتدّ، يجاهد فيها معركة التطويع القذرة فيقهرها، الزنزانة الضيقة المعتمة، العزل الانفرادي الذي ذهب بعقول بعض الرجال، يتمسّك فيه ويتماسك ب"الحمد لله" ويبهرهم بأنّ وقته أضيق عليه من ساعات اليوم التي ينتظرون مرورها لينزاحوا من أمامه لسجنهم الداخلي من رحابة فضاءاته!
يهزل جسده ولا تهزل روحه، وتشيخ أركانه لكن روحه تظلّ يقظة متأهبة، يقيم مع إخوانه إن كان السجن جماعياً مجامع خير ويصبر على الاستهدافات التي تطاله في بعض المراحل من السجناء الأمنيين، ويكظم غيظه على أحوال المسلمين المتردية في الخارج، يصبر ويصابر ويصبّر غيره، ويصمد وهو يعدّ الأيام عدّاً، ويتساءل بين الفينة والأخرى: هل كبر الأولاد، هل تزوجوا، هل حقاً أصبح جداً؟! قد أسر ولمّا يزل بعضهم أجنّة لم يرها ولم تره..
ينتظر الأخبار التي تصله عبر ألف مصدر، تمرّ سنون واسمه لا زال منسياً، وصفته لا زالت على الورق أسيراً ضمن آلاف الأسرى..
واليوم هو واحد من ألف أو ألف بواحد..
يفكّر بها وبتراب الأرض خارج الأسوار، يعدّ لها القصائد في طريق العودة، يتبادل الحمد والتكبير مع الإخوان ويرمق الطرقات التي عليه أن يجتازها حتى يصلها، يخرجونه بعيداً عن بلدته، يريدونه في بقعة بعيدة عنهم خارجها، يستشعر حقدهم وهم يهددونه بأسوأ مصير، عن قريب، ينظر إليهم ساخراً وهم يموتون كمداً ويرد عليهم: "خسئتم، فرغم أنوفكم سأخرج وستبقون أنتم أسرى الخوف مني، في كل ليلة وعلى كل قارعة طريق وفي كل مقهى وعند كل حافلة ستفكّرون بي، هل عاد من جديد؟ هل ستكون هذه وجبتنا الأخيرة؟! هل سنلقى الموت تفجيراً أم قتالا حياً؟!" تسودّ وجوههم إذ يحادثهم وتنغرس في صدورهم سكاكين الخوف والغيظ، يلجمهم المستقبل ويرعبهم السكون كل ليلة، يعيشون واقعاً كارهاً لهم رافض لوجوههم الكالحة ومسمياتهم الغريبة، خارجٌ يضج بكراهيتهم وسجون تضج بكراهيتهم وأرض تضج بكراهيتهم، والخوف كل الخوف من أن يكون منهم شاليطٌ جديد! |
|
|
|